كتبت :نهله مبارك
منذ آلاف السنين، لم تكن الحضارة المصرية القديمة مجرد أهرامات شامخة ومعابد مهيبة، بل كانت أيضًا حضارة للحياة اليومية والفنون الراقية التي جسدت جمال الإنسان وذوقه الرفيع. لقد برع المصري القديم في العمارة والفن والطب، وامتدت عبقريته لتشمل حتى أبسط تفاصيل حياته، ومنها الملابس التي لم تكن مجرد ستر للجسد، بل انعكاسًا للمكانة الاجتماعية والجمال والهوية. واليوم، يكشف لنا علم الآثار عن سرّ جديد يُضيء جانبًا آخر من عظمة هذه الحضارة.
ففي منطقة طرخان جنوب القاهرة، عُثر على ما يُعرف بـ “فستان طرخان”، وهو أقدم فستان معروف في العالم حتى الآن، حيث يعود تاريخه إلى ما بين 3482 و3102 قبل الميلاد. هذا الفستان، المنسوج من الكتان المصري بدقة متناهية، يتميّز بخياطة احترافية وطيّات دقيقة عند الأكمام والصدر، مما يدل على أن المصري القديم لم يكتفِ بتصنيع الأقمشة بل أتقن فن التفصيل والموضة منذ فجر التاريخ.
اكتُشف هذا الفستان لأول مرة عام 1913 على يد عالم الآثار البريطاني فليندرز بتري، لكنه لم يُدرك قيمته إلا بعد عقود عندما فُحص بعناية في متحف “بيتري” التابع لجامعة كوليدج لندن. اللافت أن الفستان يُظهر علامات استخدام، ما يعني أنه كان يُرتدى بالفعل في الحياة اليومية قبل أن يُوضع مع صاحبه في القبر، ليبقى شاهدًا خالدًا على براعة المصريين القدماء.
إن اكتشاف “فستان طرخان” ليس مجرد العثور على قطعة قماش قديمة، بل هو نافذة حيّة تُطل بنا على الذوق الفني والمهارة الحرفية التي ميّزت المصري القديم منذ آلاف السنين. إنه دليل آخر على أن مصر لم تكن فقط مهد الحضارات في العمارة والعلوم، بل أيضًا في الأناقة والموضة. وهكذا، يظل التراث المصري شاهدًا على أن حضارة وادي النيل كانت – وستظل – رمزًا خالدًا للجمال والإبداع الإنساني