أخبار عاجلة

أرجوك أعطني هذا الأكسجين .. قصة قصيرة

(( أرجوك أعطني هذا الاكسجين ))        

مروة حمزة :

غابت الشمس منذ لحظات وبدأ الليل يصبغ الكون بلونه الأسود شيئا فشيئا، ومازال المكان مكتظا بالبشر ، صفوفُ متراصة على اليمين وعلى اليسار  ، وأصوات سيارات الإسعاف بالخارج تعلو ليتسع لها المتواجدين للدخول وسط هذا الزحام لمبنى بدا وحده في المكان  وحوله أرض فضاء واسعة ملقى على أطراف القرى والنجوع في كبد الصحراء ، يبعد عن البيوت والعمار ، لم يكن هذا المبنى سوى “مستشفى حكومي” مكون من ثلاث طوابق تشققت بعض جدرانه فبرزت الشروخ وسقطت عنه طبقة الطلاء فبدا على حاله من القدم التي لم يطلها يد التجديد والتغيير ربما منذ بنائه  ، أحاط به سور دائري كبير يفصله عن الفراغ الذي حوله .

وفور دخول سيارات الإسعاف تراصت الصفوف مرة أخرى وعادا الزحام من جديد أمام الباب الرئيسي من أهالي المرضى  يحاولون الدخول للاطمئنان على زويهم ، وأخرون مرافقون لحالات جديدة وافدة معهم يريدون الكشف والفحص ، وقد سيطر الحزن والبكاء والتوتر على أكثرهم  ، كما ازدحمت حركة المرور بجانب المستشفى ، مما أضطر الأمن وطاقم التمريض لاستبعادهم كي لا يؤثر تواجدهم على سير العمل محاولين إعادة الهدوء للمكان الذي امتلأ بالضجيج والإزعاج دون جدوى ، مما دفع ببعض الأطباء للخروج لهم  وطلبوا منهم بلهجة حازمة بضرورة مغادرة المكان ، والاكتفاء بالدعاء لذويهم وتركهم يؤدون دورهم فما يحدث من فوضى يضر بالجميع وليس في صالح أحد  .

في تلك الأثناء وقف الطبيب الشاب “أحمد سالم”بملامحه الحادة ، أمام إحدى الغرف بالطابق الأول يحاول امتصاص غضب والد شاب مريض واقناعه بالعودة بابنه لاستكمال علاجه بالمنزل ، وحين ألح الاب بإبقاء الابن لليلة اضافية أصر الطبيب على المغادرة

وقال موجهًا حديثه للاب : عليك أن تتبع التعليمات التي شرحتها بتوفيرغرفة عزل في المنزل والمواظبة على العلاج في موعده بانتظام ، فابنك حالته مستقرة وليس في حاجة للحجز ليوم إضافي  .

  ابتسم الطبيب برفق لطمأنته وإزالة القلق والتوتر الذي بدا واضحًا على وجهه ، تنفس الصعداء حينما شعر باقتناع الرجل أخيرًا ، وسريعًا وقع له على إذن المغادرة بابنه بعد نقاش طويل استهلك وقته وأعصابه وطاقته التي كادت تنفذ بعد يوم عمل شاق لم يرى مثله منذ بداية الجائحة.

زفر بكتلة من الهواء بداخلة للخارج ، وقد التفت لشابة صغيرة لاحظ أنها تحدق به في قلق منتظره أن ينهي حديثه مع الرجل الذي طال في جداله ، لمح أن صدرها يعلو ويهبط في توتر شديد ، وقد همت بالتحدث إليه ، فسبقها بكلماته قاطعًا همهمتها ومتعجلا في أمره، بعدما تذكر الحالة التي أتت معها ، مشيرًا بيده للغرفة التي بها :

– تأكدي بأني سأبذل قصارى جهدي في سبيل انقاذ والدتك .

ثم أشار بأصبعه لها وقد هم بالمغادرة : “ولكن عليكي ان تعلمي بأن الحالة خطرة وأتت في وقت متأخر “.

وإذا بالشابة منفعلة تحاول إيقافه بلمس زراعه وهو يستدير ، وكادت تبكي :

– هل ستعيش أمــي ؟!!…

رد أثناء سيره بخطوات بطيئة ثم بدأ يسرع :

– علينا جميعًا أن نثق في الله ، فالأعمار بيده وحده وليس على الطبيب سوى المحاولة لانقاذ ما يمكن انقاذه .

أسرع من خطواته قبل أن يستوقفه أحد من المرافقين وهم كثر ، وطلب من الممرض ان يخلي الطواريء منهم تمامًا كي يستطيع أن يمر على الحالات ، ونبه عليه أن يحذرهم من خطورة وجودهم على الحالات وعلى أنفسهم وعليهم احترام حق المريض في الراحة والعلاج ، ورفع صوته عاليًا  :

– نحن في مستشفى ولسنا في طريق عام .

وبعد مروره على  أربعين حالة بطابق العزل غير حالات الرعاية الخاصة  ، دخل الطبيب الشاب إلى غرفته الضيقة بالطابق الثالث وكان يستعملها كمكتب له واستراحة عند اللزوم ليتناول وجبة او ليغفو غفوة ، متعجبًا من كون مستشفى صغيرة البناية كهذه مكونة من ثلاثة طوابق فقط الأول للطواريء والاستقبال والعيادات،الثاني للرعاية والعمليات والثالث للعزل  ، أن تكتظ بهذا الكم الكبير من الحالات ، بالإضافة للطواريء التي قد تستقبل حوادث الطرق وهي واردة بشكل كبير لكون المستشفى  رغم تطرفها عن مدن وقرى الصعيد  إلا أنها على مقربة من الطريق الصحراوي .

خلع عنه بدلته الواقية التي يراها عبء يتخلص منه فور خروجه من غرف العزل والرعاية ، وضع قناع الوجه على مكتبه ، وأمسك بمحلول رش به يده ودعكها جيدًا ، أغلق نور الغرفة الساطع وأضاء أباجوره خافتة بجوار أريكة يبدو عليها القدم وضعت بجانب مكتبه ومن خلفهما نافذة صغيرة تطل على اللاشيء ، فقط فراغ، صحراء واسعة لا يحد جوانبها شيء ،ومن خلفها جبال عالية  بدت في شكل موجات بنية تعلو وتهبط ،هدوء عميق يكسره حفيف الهواء الذي يلامس زجاج النافذة تارة وسعف النخيل الذي اصطف خلف سور المستشفى تارة أخرى .

ألقى سالم بجسده المرهق فوق الأريكة وقد أزاح نظارته جانبًا ،أغلق عينيه وضغط عليهما بأنامله ، وقبل أن يغمض له جفن سمع أزيز ذبابة تحوم حوله وبحركة لا شعورية مفاجأة استطاع أن يمسكها بيده ويقتلها في الحال فعاد الهدوء للغرفة التي لم يشعر براحة فيها منذ أتى من فترة قليلة ، والمكان كله يشعره وكأنه في معسكر تمنى أن تنتهي فترة انتدابه لهذا المكان الخالي من كل شيء إلا المرضى والطاقم الطبي وسيارات الاسعاف التي تختفي فور انزال المريض ،ليعود كل شيء لهدؤه القاتل فلا يكسره إلا تأوهات المرضى في الغرف وحركة الممرضات في الطرقات وازيز بعض الذبابات في غرفته وقد هربت للداخل رغم محاولاته لطردهم.

 لحظات صمت تمنى ان تطول قبل بدء أول شفت ليلي له في أول أسبوع عمل بهذه المستشفى وقد انتدب إليها من القاهرة لسد العجز ، فالحالات في ازدياد والوضع يسوء يومًا عن يوم والأطباء قليلون ،وكان حظه العثر أن ينتدب لهذه المستشفى النائية الواقعة على أطراف الصعيد ، ورغم مرورالقليل من الأيام إلا أنه افتقد المستشفى التي يعمل بها في القاهرة وزملائه حتى مرضاه افتقدهم ، فهنا يشعر بالغربة والكآبة.

 وقبل أن يغلبه النعاس ، استيقظ على دقات متلاحقة على باب غرفته ، قام بهدوء المعتاد على هذه الأمور ، وسمح لمن يطرق بالدخول ، دخل  كبير طاقم التمريض سريعًا وفتح نور الغرفة ،وقد سد جسمه الضخم فراغ الباب، ليخبره بقدوم حالتين للطواريء ، اعتدل سالم في جلسته ونظر في ساعة هاتفه فرآها الحادية عشر مساء إنه الشفت الليلي الذي شعر بداخله من بداية اليوم بأنه لن يمر بسلام ، استمر كبير الممرضين في إيضاح ما تعاني منهما الحالتين أثناء استعداد سالم لارتداء البالطو الأبيض والكمامة ، راح يتكلم وسالم ينصت باهتمام لما يقول : طبيب الطواريء كشف على الحالتين وقد تبين أنهم في حاجة لاسطوانة أكسجين بعد نقصه في أجسامهم بنسبة كبير . وقد أزعجه ما أكمل به حديثه بأنه لا يوجد في المستشفى سوى اسطوانة واحدة فقط متاحة بعد أن علقت باقي الاسطوانات للحالات المحتجزة وكلها حالات حرجة ومن الخطورة البالغة ان تنزع منهم .

خرج سالم مسرعًا من غرفته لممر طويل تراصت على يمينه ويساره غرف العزل  حتى وصل لنهايته ونزل على الدرج متوجهًا للطابق الأول إلى غرفة الطواريء وبرفقته كبير الممرضين يهرول خلفه .

وأثناء نزوله على الدرج رأى امرأة نحيلة  تقف أمام غرفة الطواريء وقد بدا عليها التوتر والقلق ، كانت ترتدي جلبابًا أسوداً تجرجر زيله على الأرض وقد عُلقت به بعض الأتربة والعوالق ملتفة بطرحة كبيرة لفت بطرفها الأيمن رأسها وبالطرف الأخر وضعت فيه طفلًا رضيعًا يبدو أنه بالكاد تخطى العام الأول من عمره ،جرت نحوه حينما رأته وكادت تقع على الأرض فلحق بها الممرض وأسندها بيده وباليد الأخرى أمسك بالطفل ، هدأ سالم من روعتها ، ودخلا جميعهم لغرفة الطواريء ، وكانت قد فرغت من الزحام الذي شهدته منذ ساعات قليلة ، ولم يكن بها إلا الأم والطفل وحالة أخرى لكهل جلس على كرسي متحرك في وضع سيئ ، دفعت به ابنته الشابة للأمام حينما رأت الطبيب يدخل الغرفة ، وكان مشغولًا بالكشف على الطفل بسماعته الطبية ،وقد بدا في حالة إعياء شديدة وخرج منه صوت ضعيف كالبكاء المكتوم ،  وقد بادرت الأم بإيضاح الأمر بأنه تعرض لاختناق وضيق تنفس وأن الممرض سارع بإسعافه قبل أن يستدعيه ولكنه مازال يتلقف انفاسه بصعوبة بالغة، تأكد بنفسه بأن الطفل في حاجة ماسة لاسطوانة اكسجين فمازال التنفس غير مستقر ولو عادت به لربما حدث له اختناق ومات في الحال ، بدأت الشابة تعرب عن ضيقها للانتظار الطويل ، لاحظ الطبيب حركاتها المتوترة وقضمها لأظافرها مع هز قدمها بصوت مسموع على الأرض بكعب حذائها العالي ، فتوجه للكهل الذي يحاول التقاط انفاسه بصعوبة وساعد الممرض بوضعه على السرير الأخر بالغرفة وفحصه بالسماعة  وبالنظر في تحاليله التي أعطتها له الابنة كانت نسبة الأكسجين منخفضة جدًا وفي حاجة ملحة لاسطوانة اكسجين ،طلب من الممرض قياس الضغط له حتى يفكر فيما يفعل  .

كل ما مر به خلال الأسبوع كان غير محتمل ،  من مشاكل مع المرافقين لمحاولات إبعادهم عن الحالات وإقناعهم بالعودة لمنازلهم ،لآهات المرضى وتآوهاتهم وطلباتهم الملحة المختلفة ، فهذا يختنق وتلك ترتفع حرارتها وأخرى تتألم وآخر يتقيأ ، وهو ومعه عدد ضئيل من الأطباء الصغار والممرضين الذين لا يكفوا هذا الحشد الذي يزداد ،يحاولون بقدر استطاعتهم توفير ما يمكن توفيره من رعاية وعلاج على قدر امكانيات المستشفى التي كان ينقصها الكثير من اللوازم والاسعافات والأجهزة الطبية ، وقد راسل بها وزارة الصحة لتوفيرها بأقصى سرعة ولا استجابة حتى تلك اللحظة .

ورغم ذلك مر الأسبوع بسلام وبأقل الأضرار الممكنة ، إلا هذه الليلة ، التي أوقعته في حيرة بالغة لم تمر عليه من قبل ، فهو يعلم أن الله وحده يهب الحياة لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء ، ولكن اسطوانة الاكسجين تحت تصرفه الشخصي وقرار منحها لإحدى الحالتين قراره وحده ، فهو الطبيب المسئول عن هذا الشفت المسائي ، فلمن يمنحها وكلاهما مريض والوقت يمر وليس في صالحهما ،،عليه أن يختار ما بينهم !!،، فلمن سيهب الله الحياة ،وممن سينزعها عنه من الحالتين التي أمامه في وضع حرج ؟  ولمن سيمنح هو اسطوانه الاكسجين ، وممن سيحرمه منها؟!!.

وقــع الطبيب في حيـرة من أمـره ، وظـل ينظر للحالتين الطفـل والكهـل ، البدايـة والنهايـة ،؟،لمـن البقاء ،لمن الاكسجين؟، لمـن يغلب أمره على الأخر ؟؟!!

فكر أن يستمع للمرأتين ليرى بعدها  أي قرار سيتخذه، ومَن مِن ذويهم أحق بأسطوانة الاكسجين ، من أحق بالنجاة والحياة ، وهو يؤكد لنفسه انه اختيار الله وليس اختياره ، إنما هو سببًا فقط لمن سينجو منهما وينال الحياة بمنحه ما يحتاجه من الأكسجين ، وسببًا لمن سينزع عنه الحياة لحرمانه مما يحتاجه من الأكسجين . 

نظر للمرأتين ، وبدأ يوجة كلماته الحاسمة لهما  وهو يشير للحالتين : ها قد جاء وقت التضحية والاختيار ، لم يتبقى بالمستشفى سوى اسطوانة أكسجيــن واحدة ، ستمنح لأحدهما إما الطفــل وإما الكهــل ، فمــن منكمــا يضحــي من أجل الأخــر ؟؟!!!..

سؤال غريب وإجابته ليست محل اختيار أو تفكير بالنسبة للمرأتين ،فبالتأكيد كلًا منهما ستختار ما لها ، هذا ما رآه في عيونهما وهما ينظران لعزيزيهما وللطبيب المنتظر للاجابة ،  بهتت المرأتين ، وصمتتا ، ضمت الأم الطفل لحضنها ونظرت الإبنة على أبيها وأقبلت تمسك بكتفيه ، واستطرد الطبيب ليخرج منهم بإجابة سريعة ، ربما أراد أن يحملهم مسئولية الاختيار ،التي أراد أن يرفعها عن كاهله خوفًا من تحمل الذنب ، وقد بدأ بالأم بعد صمتهما وكرر سؤاله :

– ها قد جاء وقت التضحية إما أن تضحي بأنبوبة الاكسجين لهذا الكهل الذي يصارع الموت من أجل ابنته ، وإما تستأثريها لطفلك الذي ممكن ان يعوض مرة أخرى .

فخرجت المرأة عن صمتها وصاحت دون هوادة  : لا لن أستأثر أحدًا على ابني فلن يعوض وما لي من فرصة أخرى غيره ، لقد منحه لي الله وحرمني من رحمي ، فلن أنجب ثانية ، وهو كل ما لي في هذه الدنيا بعد وفاة ابيه ، أرجوك أيها الطبيب لا تحرمني من ابني ولا تحرمه من الحياة التي منحها له الله ، وحكم عقلك وضميرك ، فأبني صغير لم يرى من الدنيا إلا سنة وقليل من الشهور وأقلهم من الأيام والساعات ، أما غيره ، نظرت للكهل واستطردت بحدة : أخذ فرصته حد الملأ والضجر فلا تحرمني منه ولا تحرمه مني بالله عليك ، أترجى فيك كل عزيز وغالي ألا تحرم ابني من حقه في الحياة ، ولو باستطاعتي لأمرتك بأن تأخذ ما تبقى من عمري لتعطيه لطفلي المسكين .  وراحت تبكي وتستعطف الطبيب بدموعها التي لا تتوقف.

فإذا به يوجه حديثه للفتاة ليخرج من هول الموقف وضعف حيلته وسألها بحزم :

– هل تضحي بانبوبة الاكسجين من أجل هذا الطفل البريء الذي يحتضر أمام عين أمه المكلومة ؟؟!! 

نظرت الأبنة وقالت بسرعة دون تردد وبغضب وكانت أكثر تماسكًا بعد أن رفعت الكمامة عن وجهها :

– لا لن أؤثر أحدًا على أبي ، ولن أتخلى عنه كما لم يتخلى عني يومًا ، فإني في أمس الحاجة إليه بعد غدر الأيام بي ، فليس لي أحدًا من بعده ، تخلى عنا أخي وفي انتظار تلك اللحظة ليرث البيت ويطردني منه ، ولو بقى أبي على قيد الحياة لرفع عني الظلم وملكني ما استطاع قبل أن يُغدَر بي  ، لا أيها الطبيب لا تتركني لبطش اخي ، ولا تحرمني من أبي ، لا تسلب منه الحياة التي منحها له الله ، لا تتركه للموت ، أرجوك ، فهو لي كل شيء ، وأنا بدونه لا شيء . سكتت ووقفت تنهنه وتمسح انفها بمنديلا بيدها ثم أعادت الكمامة لوضعها .

شتان الفرق بينهما هذا ما رآه الطبيب ، إمرأة تصارع من أجل حياة ابنها فلذة كبدها حتى ولو على حساب حياتها ، ولو خيرت بين بقائها وبقائه لاختارت بقاءه دون تردد ، والأخرى تصارع من أجل حياتها لا حياة ابيها ،واختيارها لبقاؤه من أجلها لا من أجله ، ولو خـُيرت بينهما لاختارت نفسها .. أم مكلومة تترجى  وابنة مهمومة تتمنى ،، ولكنه مازال حائرًا بينهما ، وخاف أن يظلم إحداهما .

طلب الطبيب من الممرض أن يخرج المرأتين من غرفة الطواريء وأن يتركوه وحده مع الحالتين ليتخذ قراره دون ضغط ، وليعرف من الأحق بأسطوانة الاكسجين ، بعد أن يتأكد منهما بنفسه   ؟

اخرج الممرض المرأتين بصعوبة وكلتيهما عندها أمل أن يختار ما يخصها .

وبعد قليل نادى الطبيب على الممرض الذي دخل له وأغلق الباب وراءه تاركا المراتين في قلقهما  وتوترهما الظاهر ، ولم تتعدى الدقيقة وقد خرج الممرض  بعد أن أمره الطبيب بحجز الطفل بالرعاية ومنحه اسطوانة الاكسجين وسرعة تمريضه ،وأعطى تعليمات له بأن يخبر الفتاة بأن ابيها في خطر فعليها ان تقرر إما بأخذه لمستشفى أخرى بسرعة لاسعافه وإما تركه لحين توافر اسطوانة اكسجين على مسئوليتها الخاصة . 

عاد الطبيب لغرفته وصعد على  الدرج سريعًا قبل أن تلحق به إحداهما  ، وقد وصل له صوتهما العالي الذي أصبح ضجيجًا على أثره قام الممرض بطردهما بمساعدة الأمن ، فالأم تدعو له باكية ببركة العمر وسعة الرزق والنجاة من مصائب الدنيا والآخرة ، والفتاة تصرخ وتحسبن وتدعو عليه بأن يحل به من المصائب والكوارث عدد لا يحصيه ولا يتوقعه .

خرج الطبيب وضميره مرتاح لقراره ، صعد إلى غرفته أخيرًا ، وقد هدء الوضع على ما يبدو حتى هذه اللحظة ، ولحق به الممرض بعد فترة ليطمأنه بأن ما أمر به قد تم على أكمل وجه، وحين تباطأ الممرض في الخروج وراح يهرش بأصبعه في رأسه ،كأنه يفكر في قول شيء ولكن الارتباك يمنعه ، شعر الطبيب بذلك ورأى في عينه استفسارًا عما فعله حينما دخل وحيدًا الغرفة مع الحالتين ، فالحالتين لا حول لهما ولا قوة ، فكيف عرف منهما من الأولى بالحياة ، أجاب الطبيب على حيرة الممرض بهدوء وراحة مستشعرًا بالرضا عن قراره :

– تريد أن تعرف لماذا اتخذت هذا القرار ؟

هز الممرض رأسه بالإيجاب ، أجاب الطبيب بنفس الهدوء:

–  لقد نظرت لعينيهما الضعيفتين وعرفت الإجابة على حيرتي واتخذت قراري بناء على شعوري.

بدا أن الممرض لم يفهم شيئًا على الإطلاق ،وزادت حيرته ،  فتح فاه ونظر للطبيب في دهشة ، الذي أكمل بكل هدوء واطمئنان :

– الكهل ترجاني بعينه أن اتركه ليرتاح من غدر ابنه وأنانية ابنته ، دون أن يتكلم شعرت بما أراد أن يفصح ، وحينما هممت بإسعافه لوضع المحاليل في يده دفع بيدي بعيداً عنه وكأنه يريد الرحيل عن الدنيا ومن بها.

واستطرد بروية وهو ينظر لاهتمام الممرض وإصغائه وقد برقت عيناه :

– أما الطفل فحينما نظرت لعينيه رأيت فيهما العجب والتطلع للحياة ، كأنه يتمنى أن أوصله بالدنيا ، مد لي يده الصغيرة ،كمن يريد ان يمسك بشيء ، أعطيته يدي فأمسك بإصبعي ولم يفلته وكأني بدوت له طوق نجاه .

سمع الطبيب ترجي “الأم” وتمنى “الابنة” ، كما شعر بترجي “الكهل” وتمنى “الطفل” ، وعرف لمن البقاء؟ ، لمن الحياة التي اختارها الله؟؛ لمن الاكسجين؟ ، للطفل أم للكهل ، للبداية أم للنهاية ، فكانت الاجابة واضحة وضوح الشمس ..               ” تمت “..