أخبار عاجلة

أوهام هيلين.. قصة قصيرة

  كتبت – مروة حمزة:

اخترق  صوت ارتطام جسم وقع على الأرض صمت الحي الهاديء بالشروق ، وقد انتصف الليل وخيم السكون على المكان، تجمع القلة من المارة حول الجسد القابع على الرصيف بلا حراك، ارتسمت الدهشة على ملامحهم حينما رأوا جسد رجل تهشمت رأسه تمامًا وسالت منها الدماء، برقت الأعين وتعالت الصيحات والاستفهامات : لا حول ولا قوة الا بالله، هل أحد يعرفه ؟؟  ضربت الأكفف ووقف الكل مزهولا .

خرج بواب العمارة على صوت الضجيج، وقف منذهلا أمام المشهد المروع وصرخ : الخواجة ستيف، لا اله الا الله .. ماذا حدث ؟؟

أشار أحد المتواجدين لأعلى وقال  : وقع من الشرفة.

 نظر البواب للجثة ثم رفع رأسه لأعلى ونادى بصرخات عالية : ياست هيلين، يا ست هيلين !!

صرخة كبيرة أطلقتها زوجة البواب عندما شاهدت “جثة الخواجة ستيف” غارقة في بحر من الدماء، سمع  بعض الجيران صرختها منهم من اكتفى بالنظر من الشرفة ومنهم من نزل لمكان الحادث  .

في حين اتصل أحد المجتمعين حول الجثة بالشرطة التي جاءت في التو تتبعها سيارة الاسعاف .

 حضر الضابط أولًا ومعه أثنين من الشرطيين، تم تشكيل كردون أمني حول العمارة وأمر الضابط الشرطي بالرسم بالطبشور حول الجثة .

سأل الضابط الحاضرين :

  • من هو بواب العمارة ؟

تحرك البواب وقف أمام الضابط معتدلا ، أجاب في سرعة وهو يهندم من شكله احكم طاقيته وضبط ياقة جلبابه، وقال :

  • أنا يا باشا، “رجب عبد التواب “بواب العمارة منذ 7 سنوات ، ودون أن يسأله الضابط ، أشار “رجب”  للجثة وقال : وهذا “الخواجة ستيف” يا باشا  كان رجل طيب الله يرحمه من يوم ما سكن هنا منذ خمس سنوات وهو في حاله.

سأله الضابط الاسئلة المعتادة في مثل تلك الحوادث :

 – في أي طابق يسكن ” الخواجة ستيف” ؟

  –   في الطابق السادس يا باشا .

– وحده أم معه أحد ؟

– مع زوجته الست “هيلين” واخته الست كاكاااثرر ييين يا باشا ” بصعوبة نطق الاسم”.

 سمح الضابط لسيارة الإسعاف بنقل الجثة للمشرحة بعدما فرغ الشرطي من التعليم بالطابشور حول الجسد على الرصيف ، وأمر  البواب بمساعدتهم للصعود حيث يسكن الخواجة .

وقام الشرطي بإبعاد المتواجدين بعدما زادت الأعداد  …

وقف الضابط أمام شقة “الخواجة ستيف” ورن الجرس ثم أخد الشرطي يدق على الباب بدقات عالية، وبعد برهة قصيرة ، فتحت سيدة  اجنبية الباب، وكانت ترتدي روب أبيض قصير فوق ملابس نومها، وردت بغضب متحدثة بالايطالية واعادت ما قالته بالعربية : من أنتم ؟

رد الضابط : أنا المقدم هاشم عبد الرؤوف، ممكن تسمحي لنا بالدخول .

بدا الاستغراب على وجه السيدة، وقبل أن تنطق قاطعها البواب بقوله :

  • يا ست هانم الخواجة ستيف وقع من الشرفة بالشارع .

صرخت ” كاثرين” من وقع الصدمة وتراجعت للخلف فصدمت بالجدار ، دخل الضابط تاركًا المرأة لصدمتها ووراءه البواب والشرطي باتجاه الشرفة .

كانت الشرفة مفتوحة وآثار فنجال شاي محطم وملقى على الأرض ،وجزء من حديد الشرفة وقد ثني من آثر جسد الخواجة أثناء سقوطه.

بدأ الضابط يسأل السيدة عن علاقتها بالخواجة ستيف ، فقالت وسط دموعها ومازالت علامات الدهشة تعلو وجهها  :

– أنا كاثرين أخته .

سأل الضابط : من معكم هنا غيرك والخواجة ؟

 ردت بصوت منتحب : هيلين زوجته ، وصرخت عاليًا : هيلين .. هيلييين .. هيلييييين

خرجت امرأة تبدو في الثلاثين من عمرها، من حجرتها ممسكة بفرشاه بيدها تمشط بها شعرها الأشقر وتنظر للمتواجدين بلا مبالاه ، وبكل هدوء توجهت لبيانو أسود ضخم وضع أمام نافذة كبيرة  تطل على حديقة ، وجلست أمامه لتعزف وسط صمت المتواجدين واستغرابهم .

بينما قطعت كاثرين هذا الصمت وصرخت بها  :

  • ماذا فعلت بـ ” ستيف” ايتها المجنونة .. عزفت “هيلين” بقوة ولم ترد وكانت تنظر للنافذة وتحرك رقبتها مع صوت عزفها وكأنها وحدها بالمكان.

لم تستطع كاثرين تمالك نفسها فقد خانتها دموعها وسألت ضابط الشرطة:

  • هل يمكن أن تأخذوني إلى مركز الشرطة بعيدًا عن هذا المكان، لأدلي بشهادتي كاملة وأغوص في التفاصيل ، وقبل أي شيء أريد رؤية اخي المسكين.

فأجابها الضابط : بالطبع

وعلى الفور أمر الضابط الشرطي بمعاينة المكان وإحضار كلا من السيدتين بعد استبدال ملابسهما.

أخذ الضابط المرأتين معه بسيارة الشرطة  ومعه أحد الشرطيين ، وترك الآخر  في مكان الحادث ليقوم بالإجراءات اللازمة ، وأعطى تعليماته بتفريغ كاميرات المنطقة المحيطة بالعمارة.

كانت خيوط الصباح قد بدأت في الظهور، وازداد التجمع حول مكان الحادث من الجيران والمارة والفضوليين..

جلست كاثرين في غرفة المحقق وبدأت الإدلاء بأقوالها بوجود شرطية تسجل كل ما تقوله  في دفتر التحقيقات :

– أنا “كاثرين كيلر ” طبيبة نفسية عمري  55 عامًا الأخت الكبرى لـ” ستيف كيلر ” ويصغرني بخمس سنوات ، قبل شهرين تحدث إلى أخي يشكو زوجته “هيلين روجر” ويتهمها بأنها أصبحت عدوانية ، كان يشعر معها بعدم الأمان وأنه مهدد بالقتل لدرجة تركه للبيت بالأيام، وطلب مني الحضور في أسرع وقت، ولكن للأسف لظروف عملي لم استطع المجيء سوى من عشرة أيام فقط لأرى أخي يموت أمامي ولم أستطع إنقاذه، لم تكن تلك المرة الأولى التي تحاول فيها هيلين قتل ستيف .. صمتت كاثرين ثم بكت كثيرًا وقالت   :

– أنا أتهم “هيلين روجر “بقتل شقيقي ” ستيف كيلر” وأرجو اتخاذ اللازم لاسترجاع حق “ستيف” المسكين.

*****

بعد جولة من التحقيقات مع “هيلين” و”كاثرين”، وبعض معارفهم من الجيران والعمال بالمطعم والمحيطين بهم ، وبعد ظهور تقرير الطب الشرعي وتفريغ الكاميرات ، ثبت أن “هيلين روجر” هي من دفعت بـ ” ستيف كيلر” من الشرفة فأوقعته قتيلًا في الحال ، حولت أوراق القضية للنظر أمام محكمة الجنايات.

وقفت  “هيلين ” خلف القفص الحديدي شاحبة اللون مبرقة العينين ، بدأت الجلسة في العاشرة والنصف صباحًا  .

صاح الحاجب :

  • القضية رقم 333

 عرض ضابط الواقعة تقرير القضية على هيئة المحكمة وأسرد تفاصيل الواقعة وملابساتها، وختم تقريريه بالقول :

  • سيدي القاضي حضرات السادة المستشارين بناء على ما ورد بالتقرير وبتفريغ الكاميرات واستجواب الشهود، اتهم “هيـلين روجــر ” بقتل زوجها ” ستيف كيلر” مع سبق الإصرار والترصد ومع وجود النية للقتل بدفعة من الشرفة ليسقط قتيلًا في الحال، وأرجو من المحكمة الموقرة أن توقع عليها أقصى عقاب فلا تأخذكم بها شفقة ولا رحمة لتكون عبرة لأمثالها .

نهض المحامي قائلًا : حاضر عن المتهمة “هيلين كيلر “………

لم يكمل جملته بعد مقاطعة “هيلين” له ، وصاحت :

  • سيدي القاضي هلا سمحت لي بالحديث عن نفسي، لست بحاجة لمحام فلن يعرف خبايا الأمور كما أعرفها، ومن حقي أن أقول كل ما بداخلي .

سمحت هيئة المحكمة لـ “هيلين” بالتحدث بعدما أصرت على رفضها للمحامي الذي انتدبته المحكمة للدفاع عنها .

 بدأت “هيلين” تسترجع ذكرياتها مع “ستيف” وقالت بكل هدوء والكل ينصت لها :

  • أنا “هيلين روجر” 35 عامًا تزوجت “ستيف كيلر” منذ سبع سنوات في روما رغم رفض أهلي له ووقوفهم ضد هذه الزيجة التي رأوها غير متكافئة، كان يكبرني بأعوام كثيرة،وعمل نادلًا بطمعم في فندق يمتلكه أبي الغني ذائع الصيت والنفوذ،  تحديت كل من وقف ضد رغبتي من الزواج بـ “ستيف” وتركت كل شيء أهلي وعملي وأصدقائي وحياة الرفاهية والثراء، وسافرت معه للقاهرة بعد زواجنا بعام بناء على نصيحة صديق مصري له بافتتاح مطعمًا إيطاليًا بالقاهرة بعدما طرده أبي من الفندق وتعرضنا لمضايقات ومشاكل كثيرة بسبب إتمام الزواج رغمًا عنه ولم نجد أي وسيلة للعيش فتركنا وطننا وجئنا لهنا بعيدًا عن بطش أبي ونفوذه .

  كنت أكتفي بـ ” ستيف” وأحبه بجنون، ما يقوله أصدقه ، وما يأمر به أفعله ، وما ينهاني عنه لا أفعله ، مع مرور الوقت شعرت بأنه يتغير في سلوكه وتصرفاته،  يتحول لشخص آخر لا أعرفه، فلم يكن هو حبيبي ” ستيف” المخلص الرقيق، كان يتهمني بأني لم أفعل شيئًا من أجله، ولم أضغط على والدي ليعطينا من ماله، وسبب تعاسته ومشاكله بل وصفني بأني نذير شؤم عليه.

استطردت “هيلين” بحزن :

  • مع مرور الوقت أصبحت أرى حبيبي “ستيف” يتلاشى شيئًا فشيئًا، ويتحول لكائن آخر ليس بإنسان، أراه حيوانًا مفترسًا، كلما نظرت لوجهه أرى عيناه تلمع كعين ” ذئب ماكر”، يتحدث عن ثروة أبي دون كلل ولا ملل، يريدني أن أحصل عليها بأي طريقة، طلب مني التحدث لهم عن ضيق حالنا بالقاهرة ليرسلوا لنا مساعدات، لأول مرة أرفض أن أطيعه، تعدى علي بالضرب والسب والإهانة، خانني أكثر من مرة وحرمني من حبه، ومن كلماته الرقيقة وزهوره التي كان يقدمها لي بسبب ودون سبب، بل وخطف مني طفلي يوم ولدته ووهمني بأنه مات، لقد استبدل “طفلي” يا سيدي القاضي بآخر ميت، توقفت “هيلين” عن الكلام وبكت بحرقة، وتابعت :
  • رأيت الكائن الغريب يكبر بداخله يومًا عن يوم حتى صار هــو نفسه الذئب، لقد سكن الذئب جسد زوجي “ستيف” وخطف طفلي وربما آكله، حاولت مرة أن اقطع لحمه بسكينًا لاستخرج منه “ستيف” و”طفلي المسكين”، ولكنه شعر بي وأمسك السكين وكاد يقتلني بها، تخلص من كل سلاح في البيت، هجرني مرات عديدة، وفي كل مرة يعود يكتف يدي أثناء النوم ويربط قدمي في الفراش كي لا أفتك به .

بدأت تتعالى الهمهمات في القاعة فلا أحد يصدق ما يقال على لسان “هيلين”.

  أطرق القاضي بمطرقته رافضًا مقاطعة المتهمة وعلى صوته :

  • محكمة .. هدوء.. هدوووء .  

صمتت الألسن وأغلقت الأفواه وسمح القاضي لـ”هيلين” باستكمال حديثها .

  تابعت “هيلين” بكل هدوء، بعدما أشعرها القاضي بالإطمئنان والتحدث بكل ما تريد قوله دون خوف أو تردد:

–  أتت “كاثرين” لزيارتنا، سمعتهم يتهامسون، حاولت أن أشرح لـ “كاثرين” أنه ليس “ستيف” أخوها الطيب الحنون إنه ذئب ماكر مفترس ، رأيت في عينيها أنها لم تصدقني، ومعها حق فلم تشم أنفاسه الكريهة كما أشمها، لم ترى بريق عينيه المخيف كما أراه، لم تشعر بملمـس يده المشعر وأظافــره الحيوانية الطويلة التي تنهش في لحمي، تركتهم يتهامسون ويدبرون ربما خططوا للتخلص

منـي !!،،،..

 صمتت ثم قالت بعد تفكير قصير وشرود :

–  ولكن لا لقد شعرت بأن ” كاثرين” تعاملني برفق وتحاول التقرب مني، فكت قيودي وحررتني من هذا الذئب بعدما رفضت ما كان يفعله بي ليلاً من ربطي بالفراش وتكتيف يدي ، كما أبعدته عن البيت وطلبت منه عدم المجيء، ربما شعرت أخيراً بما شعرت به بأنه ليس “ستيف” المخلص المحب، حاولت التخلص من هذا الحيوان الشرس لأتجنب أن يأذيني ويأذيها.

 واتتني الفرصة أخيرًا حينما جاء ليلًا ووقف في الشرفة وحيدًا يرتشف كوب الشاي،  وكانت كاثرين تغط في نوم عميق، تقدمت نحوه دون أن يشعر بي رأيت وجهه في الزجاج، لم يكن “ستيف” أبدًا بل كان الذئب الذي سكن جسد زوجي وخطف طفلي، أردت أن أحرر “ستيف” من هذا الذئب المفترس، كاد أن يراني في الزجاج حينما تقدمت منه ولكني لم أعطه فرصة النظر للخلف وبكلتا يداي دفعت جسده الثقيل المغطى بالشعر الكثيف وقد خبأه بروب زوجي المسكين بقوة شديدة،  لم يتمالك نفسه فوقع من الشرفة بعدما ارتطم بسورها الحديدي فثناه الملعون من قوة جسده المخيف .

صمتت “هيلين” وقد شعرت براحة بعدما أفرغت كلماتها أمام هيئة المحكمة والكل ينصت في زهول، وبدأت الهمهمات تعلو مرة أخرى دون توقف :

  • ما الذي تقوله المرأة ؟ كيف خـُيل لها أن نصدق هذا العبث؟

سألت إحدى الصحفيات وكانت تغطي وقائع الجلسة ” كاثرين” التي جلست بجانبها. 

لم تعلق ” كاثرين ” على تساؤلاتها ، راحت تنظر للقاضي  وهي تتذكر واجبها المهني و الاخلاقي وحلفها للقسم حين تخرجت بأن تكون مخلصة لعملها وإنسانيتها، ضغطت على ملف امسكته بيدها ووقفت فجأة وقالت رافعة يديها  : 

  • سيدي أنا أخت “ستيف” وأريد أن اعترف بشيئًا سيغير من مسار الحكم ومجرى القضية .

سمحت المحكلمة لـ” كاثرين” بالتقدم للأمام والاعتراف بما تريد، وطلب القاضي من المتواجدين بالتزام الهدوء والنظام .

وقفت ” كاثرين” معتدلة وكانت أكثر ثباتًا وعقلانية، وأجابت على تساؤلات القاضي حول  الاسم والعمر والوظيفة .

ثم بدأت تدلي بأقوالها بعد حلف اليمين وبيدها أوراق وضعت بداخل ملف : 

– سيدي القاضي ، إن شقيقي “ستيف كيلر” كان ضحية لأوهام  وهلاوس زوجته “هيلين روجر”،  وسأوضح الأمر من واقع تقرير طبي عن حالة المتهمة كنت بدأته حينما أتيت لزيارتهم بناء على طلب شقيقي، وللأسف لم يسعفني الوقت لأكماله، وكان القدر أسرع مما تصورت.

 واستطردت ” كاثرين” بعد أن تلقت أنفاسها :

–  من واقع عملي كطبيبة نفسية  أستطيع أن أقف على مرض “هيلين روجر”، التي اتهمتها بقتل أخي وقد أثبت تقرير الطب الشرعي ذلك أيضًا، وربما طي هذه الأوراق التي بيدي كافيًا لإخفاء الحقيقة، وربما إعدام “هيلين روجر” كان سيريحني ويثلج صدري لقتلها لشقيقي الوحيد، ولكن واجبي الاخلاقي وضميري المهني يحتم علي أن أوضح  لكم ما تعاني منه المتهمة.

 لحظة صمت تبعتها همهمات بالمحكمة ، وتابعت ” كاثرين” دون الاكتراث بتلك الهمهمات :

  • هيلين يا سيدي تعاني من مرض نادر اسمه “وهم …

قاطعتها أصوات الحاضرين بالقاعة وعَلى صوت الضجيج، الهمهمات تتصاعد، والاصوات ترتفع :

– أي وهم يؤدي لقتل الرجل ؟!!

– ما هذا التخريف؟!!

–  هل ستكررين ما قالته القاتلة  ؟!!!

– هل أنتي متأكدة من كونك شقيقته أم شقيقة المتهمة ؟!!

ساد الصمت بالمكان، بعدما طرق القاضي بمطرقته عدة مرات لإعادة الهدوء والنظام لقاعة المحكمة مهددًا بطرد من يفتعل الفوضى والضجيج.

 ونظر لـ ” كاثرين”  وسمح لها بالكلام قائلًا :

 – تفضلي قولي ما عندك وأثبتيه بالأدلة .

أعتدلت ” كاثرين”  في وقفتها وراحت تقلب في أوراق التقرير الطبي الذي أعلنت عنه منذ لحظات، نظرت للقاضي وتابعت  :

 نعم سيدي القاضي “هيلين روجر” تعاني من مرض نادر معروف طبيًا باسم ” وهم كابجراس”، ودعني أقر أ لهيئة المحكمة الموقرة المفهوم العلمي لهذا المرض النادر كي نقف على ما تعاني منه المتهمة ونصل للحكم العادل .

سمح لها القاضي ، وبدأت “كاثرين” تقرأ بعض السطور من التقرير بعدما ارتدت نظارتها الطبية :

– “مرض أو متلازمة كابجراس” سيدي هو اضطراب يصاب به الشخص فيحوله لمريض نفسي يتوهم فيه أن أحد الأشخاص المقربين ، كالزوج أو الزوجة ، تم استبداله بآخر غريب ومحتال يرغب في  إيذائه، وكلما نظر المريض لوجه هذا  الشخص الذي بسببه عانى من المرض يراه آخر شريرًا أو حيوانًا مفترسًا وليس الشخص الذي يحبه، وهذه الهلوسة والتصورات الخاطئة يعتبرها المريض حقيقة وتحوله لشخص عنيف وخطر تجعله يفكر في القتل لاقتناعه التام بأن حبيبه أصبح بداخل مخلوق شرير .

أغلقت “كاثرين” التقرير، وأزاحت النظارة عن وجهها، وقالت لهيئة المحكمة رافعة من صوتها  :

– سيدي القاضي كما قلت لحضراتكم “هيلين” تعاني من هذا المرض وبصفتي طبيبة نفسية أقول بأن المتهمة مريضة تعرضت لاكتئاب شديد كاد يصل بها لانفصام  تام، صور لها عقلها أن زوجها “ستيف” استبدل بآخر، ولأول مرة أفرغ ما قاله لي “ستيف” حينما استدعاني لزيارتهم، صارحني بأن “هيلين” تراه حيوانًا وحشيًا وليس بشريًا، تحدث إلي مرة بعدم شعوره بالأمان وبأنه مهددا بالقتل خاصة بعد وفاة طفلهما أثناء الولادة وبأنها لا تصدق انه مات، سيدي القاضي  “ستيف ” كان يقيد “هيلين” لخوفه من الفتك به بسكين حاد وقد اقدمت على ذلك كما قالت الآن.

صمتت ” كاثرين” وسط ذهول الحاضرين ونظرت لـ”هيلين” وكانت تقف ممسكة بالقضبان الحديدية وتنظر لها في صمت تام وشرود ، تابعت ” كاثرين ” :

– سيدي القاضي حينما أتيت للقاهرة وجلست مع “هيلين” رأيتها امرأة تبدو طبيعية أحيانًا في تصرفاتها وأحاديثها ونحن بمفردنا ، إلا حينما نتحدث عن “ستيف” تنكر وجوده وتهلوث بأنه يعيش بداخل ذئب متوحش، تقنعني بأنه ليس أخي ولا حبيبها ، حدثتني عن اعتداءه عليها بالضرب والاهانة وأنه يريد افتراسها وبأنه خطف طفلها أو التهمه شيء من هذا القبيل، كانت انفعالاتها مستقرة نوعًا ما وإن بدت شاردة أحيانًا، ولكن عندما يحضر”ستيف” وتراه أمامها يتغير كل شيء ترتبك وتشعر بخوف شديد وتعزل نفسها بغرفتها ، تأكل وتشرب بصعوبة لو كان يشاركنا الطعام ، تصرخ دون سبب لو وضع يده على كتفها أو لمسها،طلبت من “ستيف” عدم المجيء للبيت إلا حينما اطلبه وليته استمع لي ،، كنت في حاجة للوقت كي أعدل من سلوكياتها وأفكارها ولكن القدر لم يمهلني ذلك ، حالة “هيلين” كانت متأخرة ، وللأسف حضر ستيف في تلك الليلة السوداء.

صمتت” كاثرين” قليلًا وقالت بحزن عميق والدموع تملأ عينيها :  لم ألحق بأخي ولم استطع انقاذه يا سيدي ، ولكن واجبي الآن يحتم علي إنقاذ هذه المسكينة ، أشارت لـ”هيلين” التي وقفت منتبهة لكلماتها وقد فاقت من شرودها، واستطردت “كاثرين” وهي تشير لها :

–  نعم  أعني كل كلمة أقولها “هيلين” مسكينة ومريضة بالوهم .

سيدي القاضي “هيلين” ليست في حاجة لوضعها بقفص حديدي بل في حاجة ماسة للعلاج ، أطلب من عدالتكم بأن توضع بمصحة نفسية والسماح لي بالإشراف على حالتها، فأنا أكثر من يستطيع أن يخرجها من هلاوسها وقد زال السبب ربما استطيع أن أعيدها لطبيعتها وأخلصها من أوهامها.

 فرغت ” كاثرين ”  من الحديث.

    ضجت القاعة ، طرق القاضي بمطرقته عدة مرات :هدوء .. هدوء

شاور القاضي  هيئة المستشارين برهة من الوقت ثم قال :

تؤجل القضية لحين تشكيل لجنة طبية عاجلة للكشف على المتهمة والوقوف على حقيقة ما عرض بالتقرير الطبي والبت في الأمر للنطق بالحكم .     ” رفعت الجلسة”  

****

أكدت اللجنة صحة ما ورد في التقرير الطبي لـ ” د.كاثرين كيلر” ، وأوقعت الفحص والكشف على دماغ وعقل “هيلين روجر “، وعقدت جلسة الحكم الأخيرة وأسدل الستار على قضية قتل “الخواجة ستيف”.

 حولت” هيلين ” لمصحة نفسية وسمح لـ “كاثرين” بالإشراف على علاجها بعد موافقة “هيلين” وشعورها بالارتياح تجاهها.  

                                                                                                          “تمت “

*****