أخبار عاجلة

مـَذاق مـٌـــــر

انتظرت كثيرا أمام الباب أطرقه وكنت على وشك الذهاب وللحظة عدلت عن قراري عندما سمعت صوت من داخل الشقة ينادي :  ياسعاد، افتحي الباب.

تابع الصوت سعال رجل عجوز  وخطواته يتقدم ببطء حتى فتح لي الباب.

السلام عليكم، انا موظف التعداد السكاني احتاج سؤالك بعض الأسئله عن المتواجدين بالشقة واعمارهم ووظائفهم

تفضل ياولدي.

أسف على التأخير، فقد ناديت سعاد لتفتح الباب ولكنها لم تستجب، فهي في الفترة الأخيرة أصبحت منهكة دائما تعجز عن تلبية واجباتها بالمنزل، مما جعلها مقصرة كثيرا فيه، انا اقدر ذلك، فهي تعاني من أمراض الشيخوخة، أنا من يوفر لها احتياجاتها وأرعاها.

جلست بالصالة، شعرت دفء المكان، النوافذ مغلقة بإحكام، لفت نظري سجاد قيم يغطي الأرض، ابهرني سجادة يدوية قديمة معلقة على الحائط شغل عليه صورة فتاة، كنت اتأملها، ودون أن أسأل، قال العجوز:

هذه الفتاة بالسجاد هي زوجتي سعاد سوف أناديها الآن لتقدم لك التحيه:

يا سعاد احضري الشاي للضيف.

تابع كلامه، كنت اعمل بحي الحسين  املك مشغلا لصناعة  السجاد اليدوي، حين  رأيت سعاد تتقدم من المشغل، وكانت في العشرين من عمرها،  لا يماثلها فتاة في جمالها، رأيتها مدللة رقيقة، تتحسس خطاها الأرض، تسير في خجل، تتقدم ببطء حتى سألتني: كم ثمن هذا السجاد؟

لم اسمعها جيدا، ولم أجيب فقد كنت هائما في عينيها الفيروزية، وشغلني حمرة خدها الأسيل، وشفتاها المرمية، أخبر أنفها الممشوق عن كبرياء خفي. عكس لون ثوبها بياض بشرتها الناصع دون شائب، غير حسنة بخدها الأيسر زادتها سحرا، تَهَدل شعرها البني على كتفيها متموجا متحررا دون رباط يحكمه. ازداد أحمرار وجنتيها خجلا وانا اتأمل وجهها الملائكي،  اسَبّح بجمال صنع الخالق…

نظرت على المنضدة، عدد كبير من الواح الشيكولاته الغالية، سألته على استحياء: لابد أن  لديك أحفاد؟

قال وهو يشيح بيده في تنزه:

لا فأنا وسعاد لم نرزق بأبناء، حاولنا كثيرا في بادئ الأمر. كانت تحاليلي سليمة، أما سعاد فلا، كنت استطيع الزواج مرة ثانية والإنجاب، طلبت هي مني كثيرا الزواج بأخرى، بل وكانت تأتي لي بالعرائس، ولكني رفضت، خفت على سعاد من الألم، فأنا لا احتمل نظرة حزن منها، وقررت البقاء معها وحدها دون غيرها.

ألقى العجوز نظرة على الشوكولاته فوق المنضدة، وقال وهو يشير:

انها لسعاد، فهي تحب ذلك النوع من الحلوى، دائما ما  تطلبه مني، كنت أتيها بها يوميا وانا عائد من العمل، واستمريت على تلك العادة طوال سنوات زواجنا و بعد أن كبرنا وأصبحت لا أنزل للعمل كثيرا،  اذهب مخصوصا أشتريها لها. حتى أن البائع حفظ طلبي، عندما اقصد دكانه يحضر لي الحلوى دون أن اطلب منه، لكن في الأونة الأخيرة اصبحت الاحظ انها عزفت عنها، أسئلها ولا تجيبني، ومازلت ابتاعها لها واتركها على المنضدة هنا لعلها تعود لسابق عهدي بها.

سادت لحظة صمت، استجمعت فيها شجاعتي وقلت أود ان اسأل حضرتك بعض الاسئلة عن الأسرة والمقيمين بالبيت معك.

تفضل.

الأسم الثلاثي؟      حيدر كمال عبد القادر

السن ؟    ثمانون عاما

العمل؟   صانع سجاد يدوى

كم فرد يعيش بالمنزل معك؟    انا وسعاد زوجتي فقط.

كم عمرها؟   منذ ثلاث سنوات كانت تبلغ من العمر سبع وستون عاما ،والآن تبلغ السبعين، فأنا أكبرها بعشر سنوات

اتذكر يوم اعدت نفسي وكنت بكامل اناقتي وذهبت لوالدها اطلب خطبتها منه، رفض حينها، قال إني كبير عليها، ويريد لإبنته شابا مقارب لها في السن. لم ارضخ لرفضه، عرفت أنه مواظب على صلاة الفروض بالجامع القريب من مسكنهم، ورغم  المسافة، فكنت أسكن بجوار المشغل بالحسين وهي بالغورية، تتبعتها حين رأيتها أول مرة وعرفت مكان سكنها، كنت كل يوم أذهب للصلاة مترجلا   مرتين وثلاث، بالمسجد الذي يصلي به أباها، ابحث عنه بين المصلين، أصلي بجواره وبعد الصلاة أجالسه أتحدث معه حتى صارت ألفة بيننا، وطلبت يدها مرة ثانية وثالثة، و أصررت حتى وافق، وعندما ذهبت لبيتها للمرة الثانية، طلبت مقابلتها وحدنا أحدثها عن نفسي حتى تعرفني جيدا.فكانت مترددة في قبول طلبي، جلسنا بالصالون وجلست هي أمامي، رأيتها كما كانت أول مرة، جميلة بهية،  تنظر لي وعلى وجهها ابتسامة خجل،  كدت أبدأ في الحديث حتى نسيت كل ما حضرت له قبلها من كلمات، وعدت أنظر لها واسبح بجمال صنع الخالق، وطال الصمت حتى فقت على ضحكتها، ترن بأذني حتى الأن لم أنساها أبدا.

نظرت بعين العجوز بريق و ارتسمت على محياه   ابتسامة خفيفة.

تنهدت في ملل زوجتي تنتظرني على الغداء، يؤخرني عنها  ثرثرة هذا العجوز. بدأت في طرح أسئلتي التي جئت من أجلها.

عم حيدر ارجو الرد على اسئلتي باختصار فقد حان وقت غذائي وعلي ان ارحل.

لا عليك سأطلب من سعاد عمل حسابك معنا في الغداء.

قالها وسكت، ورفضت في حزم:

لا، فأنا أتناول الغداء يوميا في المنزل، زوجتي تنتظر عودتي.

قول لي الآن، ما هو مؤهل زوجتك وماذا تعمل؟

في أول الأمر كانت تقوم ببعض أعمال الترجمة، هي خريجة مدرسة الليسيه، تتحدث الفرنسية بطلاقة، وبعد سنوات ملت من العمل، وكنت دائما أشجعها عليه حتى لا تشعر بالوحدة، خاصة أننا لم يرزقنا الله بالأبناء، وانا ابقى في عملي بالورشة لفترات طويلة من اليوم، ولكنها أصرت على تركه، والبقاء بالبيت، واظبت على المجئ مرتين باليوم، أترك عملي في الظهيرة لأتناول معها الغداء فلا أتركها وحدها، ثم اذهب واعود في الليل.

اي انها لا تعمل الان ؟       نعم، فقد أصبحت ضعيفة وهنة، وانا اخاف عليها كثيرا.

صمت العجوز بعد تلك الجملة التي يبدو أنها احزنته كثيرا، فقد عقد حاجبيه وكسى وجه العبوس.

تنهدت في راحة ،وقلت : أخيرا انتهينا.

لملمت اوراقي واستأذنت للرحيل، كنت على عجلة من أمري، تنتظرني زوجتي على الغداء، و الوقت داهمني بسبب ثرثرة العجوز. نظرت له فوجدته شاردا لم ينتبه لي وأنا أستعد للذهاب، كانت بعينه نظرة بعيدة، ألقيت تحية الوداع ولم يجب، تركته لأفكاره وتوجهت الى الباب فتحته وخرجت دون ان اشرب شاي او أنال غداءا.

اسرعت قاصداً الدرج عندما استوقفني  الجار، ألقى السلام ورددت عليه دون اهتمام،  طلب مني الإنتظار  لأمر هام.

كانت قدماي تسبق تفكيري، ترجلت درجتان ثم وقفت. التفت للجار وانتظرت ليبدأ سؤاله:

هل كنت تريد شئ من عم حيدر؟

جاوبته متعجلًا متأففا:

نعم، فأنا موظف التعداد السكاني، وأتيت لحصر تعداد السكان بشقق البناية، دخلت شقة العجوز وأخذت بياناته هو وزوجته التي بالشقة معه، والوقت نفذ بسبب ثرثرته، فقد كان يتحدث كثيرا عن زوجته يبدو أنه يحبها بشدة، لذلك قررت الذهاب على أن أعود غدا لاستكمال التعداد لباقي الشقق بالبناية.

هل قال لك أن زوجته تعيش معه؟

نعم وكان ينادي عليها كل دقيقتين، ولكنها لم تأتي ولم اراها،  اعطاني بياناتها وسجلتها عندي بالدفتر.

أود أن اخبرك أن عم حيدر ليس لديه زوجة، فزوجته رحلت عن عالمنا منذ ثلاث سنوات، كسرنا الباب بمساعدة النجدة ودخلنا، عندما فاحت الرائحة بالمبنى، كانت بالفراش جالسة نصف جلسة، سانده ظهرها على الوسادة واضعا هو رأسه على صدرها، لا ينطق وعيناه تنظران في زهول. أخذته الإسعاف على الفور للمشفى فكان مصابا بصدمة عصبية وجفاف شديد، وثبت تشريح الجثمان لزوجته، انها توفاها الله منذ خمسة أيام قبل اكتشاف الحادث.

كانت الصدمة تسري بجسدي بالكامل، أتشبث بالترابزين خوفا من أن يختل اتزاني، نظرت لباب شقة عم حيدر في ألم، حين أكمل الجار، تكلم بسرعة وكأنه حفظ ما يقول، يكرره كثيرا خلال ثلاث سنوات، وكان قد اعتاد مثل تلك المواقف،قال:

لم يستطع عم حيدر تجاوز الأمر حتى الأن، فعقله ينكر تماما موت زوجته، نسمعه ينادي عليها طوال اليوم، ويتحدث إليها كأنها مازالت تعيش معه، يخرج ليبتاع الحلوى لها كما اعتاد في الماضي. نحن من نهتم لأمره فهو وحيد لا يملك أبناء.

انهى الجار كلامه وتركني ورحل. ترجلت ببطء على الدرج، سرت بالطريق شارد الذهن ، أفكر في زوجتي والتي تنتظرني على الغداء، تزوجتها منذ سبع سنوات ولم يرزقنا الله بالأبناء، شعرت بالحزن يغمرني، فقد شاهدت نفسي في العجوز بعد سنوات،تركت الحكاية في حلقي مَذاق مر، وكانت الدموع تسبح بعيني و انتابتني رغبة في البكاء.